خليل حرب
6 تشرين الثاني/نوفمبر 2025
عندما تولّى محمّد شيّاع السوداني رئاسة الحكومة في العراق العام 2022، كان هناك العديد من المشكّكين. المتفائلون كانوا هناك أيضًا.
تمثيل برلماني بـ3 مقاعد فقط لتيّار الفراتين الذي يتزعّمه؛ وولاية حكوميّة ناقصة زمنيًّا، إذ لم تدم سوى 3 سنوات بعدما ضاعت نحو سنة في صراعات القوى السياسيّة والحزبيّة؛ وتوتّر لم يسبق له مثيل بين الصدريّين وبين القوى الشيعيّة الكبرى وصل إلى حدّ الاشتباكات؛ ومناخ تخويني حادّ حكم العلاقات بين الحكومة السابقة وبين بعض الفصائل الشيعيّة؛ شرارات فضيحة ما عرف باسم “سرقة القرن” خلال نهاية عهد مصطفى الكاظمي كانت تهزّ الحياة السياسية في البلد، وتفقّد العراقيّين إيمانهم بالنظام ككلّ؛ فيما تسود أجواء انعدام ثقة بين بغداد وبين حكومة إقليم كردستان؛ وفتور متبادل بين أنقرة وبغداد حول ملفّات عديدة؛ ومسار ملتبس وصاخب يحتاج إلى الكثير من المعالجات مع الولايات المتّحدة.
ما من معجزة هنا. لكنّها ليست صدفة أن يتردّد الآن بين العراقيّين وفي الإعلام العالمي، أنّ العراق يتّجه إلى صناديق الاقتراع في 11 نوفمبر/تشرين الثاني، وهو في أكثر حقباته هدوءًا منذ العام 2005، تاريخ أوّل انتخابات في مرحلة ما بعد صدام حسين.
لم يمتلك محمّد شياع السوداني عصًا سحريّة، ليقود العراقيّين إلى هذه اللحظة الانتخابيّة الاستثنائيّة الآن. ولم تكن سنوات السوداني المبتورة في الحكم، مجرّد 3 سنوات عابرة، وإنّما كانت حافلة بالمخاطر والعراقيل والمصاعب والضغوطات الداخليّة والخارجيّة أيضًا، وليس أقلّها حروب ما بعد 7 أكتوبر/تشرين الأوّل 2023، وتفاقم الصدام الأميركي-الإيراني إقليميًّا، لكنّه، برغم ذلك، تمكّن من قيادة الحافلة إلى برّ السلامة الانتخابيّة وصناديق الاقتراع المفتوحة أمام خيارات الناس.
لكنّ أقدار الأوطان، لا تصنع صدفة. وهناك من يقول إنّه لو اجتمعت كلّ هذه الملفّات الملتهبة على طاولة رئيس آخر، في بلد آخر، ربّما ما كان لينجو منها، ولا نجت بلاده. لكنّ العراق نجا حتّى الآن.
ماذا فعل السوداني فعليًّا؟ أعاد تحويل النقاط التي كان يفترض أن تكون نقاط ضعفه، إلى نقاط قوّة له، يفتح من خلالها الأبواب التي تبدو موصدة، ويسوّي التشابكات المعقّدة، في محيط من الأزمات الداخليّة والتحدّيات الإقليميّة.
تحويل المشكلات إلى فرص، في مناخ سياسي كالذي يعيشه العراق لن يكون مهمّة سهلة أمام أيّ سياسي عراقي. لكنّ السوداني الذي اعتبر كثيرون أنّه لن يتمكّن من التقدّم والنجاح لأنّه لا يتمتّع بقاعدة شعبيّة ولا برلمانيّة تتيح له ذلك، استفاد من خلفيّته الإداريّة الناجحة كتكنوقراطي وخبير خدم كوزير لحقوق الإنسان ووزير للعمل والشؤون الاجتماعيّة، وكمحافظ لميسان، ومن سمعة الكفّ الحسنة التي يتمتّع بها، ليصعد إلى رئاسة الوزراء بتوافق القوى السياسيّة المختلفة، من الشيعة والسنّة والأكراد، ومن خلال “الإطار التنسيقي” الشيعي الذي سمّاه، ثمّ بتوسيع قاعدة التأييد السياسي والبرلماني له من خلال تشكيل “ائتلاف إدارة الدولة”.
وبرغم انسحاب الصدريّين من البرلمان، ثمّ من الحياة السياسيّة، فإنّ كثيرين توقّعوا إطلاق يد حلفاء السوداني في الحكم، ضدّهم. لكنّه لم يفعل. بل إنّ السوداني بذل جهودًا لمدّ خيوط التواصل مع السيّد مقتدى الصدر، على الرغم من أنّ كثيرين توقّعوا أن يلجأ الصدر إلى “سياسة الشارع” ضدّ “الإطار التنسيقي”، غير أنّ السوداني، كان دائمًا عامل الاحتواء والتهدئة.
وكان من الواضح أنّ السوداني يحظى باحترام خاصّ، فهو بالإضافة إلى سيرة مسيرته السياسيّة سابقًا والتي لا غبار عليها، فإنّ كثيرين نظروا إليه بعيون مختلفة، فهو لا ينتمي إلى الطبقة السياسيّة الجديدة التي برزت فيما بعد العام 2003، وهو أيضًا من ضحايا ظلم نظام صدّام حسين الذي أعدم والده، ولم يطوّر علاقاته كشخصيّة معارضة في المنفى مرتبطة بالدول الإقليميّة أو عواصم غربيّة.
وحتّى النقطة التي أخذها كثيرون عليه عندما تولّى رئاسة الوزراء، بأنّه شديد القرب والارتباط برئيس الوزراء الأسبق نوري المالكي، وأنّ ذلك سيقيّد يدَيه ويحدّ من قدرته على العمل، حوّلها السوداني إلى صالحه سياسيًّا، وأبقى المالكي إلى جانبه من خلال الإطار التنسيقي، لكنّه اصطدم به عدّة مرات، من دون قطيعة معه، إلى أن خطّ مساره السياسي الخاصّ وصولًا إلى قراره خوض الانتخابات الحاليّة بقائمة خاصّة به، بعيدًا عن “حليفه” المالكي، وذلك باسم “تحالف الإعمار والتنمية” الذي أعلنه في 20 أيّار/مايو الماضي.
وانتقل السوداني بنجاح في مهمّة تبريد نظرة القوى الشيعيّة المتوتّرة مع بغداد خلال حكومة الكاظمي، وحاز من جهته على تعاون ورضا هذه القوى والأحزاب، بدلًا من سياسة الصِدام والمواجهة معها، مع تحويل تركيز الجميع، خصوصًا القوى السياسيّة، بعيدًا عن المناكفات، باتجاه العمل لتحقيق الإنجازات والإعمار لكي يشعر بها العراقيّون، برغم العمر المنقوص من ولايته الحكوميّة التي من المفترض أن تكون 4 سنوات.
ولهذا، فإنّ الانجازات ليست قليلة. عمليّات واسعة لتجميل بغداد، وتخفيف الاختناقات المروريّة وشقّ الطرقات، وتقليص القيود الأمنيّة المزعجة في الشوارع العامّة، وإطلاق مشروع “طريق التنمية” العملاق الذي كسب من خلاله أيضًا تقاربًا ضروريًّا مع أنقرة التي سعى أيضًا معها لمعالجة قضايا شحّ المياه الملحّة، وقضيّة حزب العمال الكردستاني والتحدّيات الأمنيّة على الحدود مع تركيا، وذلك مع حرص على علاقة طيّبة ومريحة مع طهران التي كانت من بين أوائل العواصم التي زارها كرئيس للحكومة، ومع الرياض التي سهّلت بغداد مصالحتها التاريخيّة مع الإيرانيّين.
ولم يكن السوداني ممّن نسجوا سابقًا علاقات مع العواصم الغربيّة، وهو ما سمح له بعدما تولّى منصبه بأن يخطو بهدوء لإقامة هذه العلاقات بشكل متوازن وبما يضمن مصالح “العراق أوّلًا” وهو الشعار الذي يعتمده في حراكه السياسي داخليًّا وخارجيًّا. ولم يكن ذلك مسارًا سهلًا، ذلك أنّ السوداني الآن، وهو على أعتاب اليوم الانتخابي، نجح في الوصول إلى هنا محمّلًا بإرث يشار إليه على أنّه تمكّن بمهارة من تحقيق “توازن” في التموضع بعلاقات بغداد ما بين طهران وواشنطن. وإلى جانب العلاقات الاقتصاديّة والثقافيّة والدينيّة المتميّزة التي وطّدها مع الإيرانيّين، فإنه أيضًا سعى إلى فتح الأبواب الاقتصاديّة أمام الشركات الأميركيّة –والغربيّة-، خصوصًا في مجالات النفط والطاقة والغاز والكهرباء والطاقة البديلة، من دون أن يغلق الأبواب أمام المصالح الروسيّة والصينيّة الكبيرة في هذه القطاعات وغيرها.
هذا توازن دقيق وحسّاس ليس بإمكان أيّ سياسي أن ينجزه، لكنّ السوداني فعلها. وظلّ يردّد بأنّ العراق سيظلّ يلعب دور “التجسير” في الأزمات والصراعات، لكنّه في الوقت نفسه لم يقع في فخّ التخلّي عن القضيّة المركزيّة المتمثّلة بفلسطين، أو السماح بفرض فكرة “التطبيع” مع إسرائيل على العراق، وكان من أعلى الأصوات العربيّة التي نادت ضدّ الحرب الإسرائيليّة على غزّة، مع بذل جهد موازٍ للحؤول دون تعرّض العراق إلى عدوان إسرائيلي.
ومن البديهي القول أنّ هذه الإنجازات، وغيرها، ربّما ما كانت لتتمّ لولا أنّ السوداني خطا خطواته طوال الأعوام الثلاثة، بحرص ودقّة مستهدفًا إعادة إنتاج “التوازن السياسي المفقود” داخليًّا، والذي أفقد شرائح عراقيّة كثيرة قدرتها على التفاؤل بالنظام القائم، لكنّها الآن صارت ترى بصيص أمل، بما في ذلك أيضًا إدارته الجيّدة لملفّات الأزمات مع إقليم كردستان حول الميزانيّة والرواتب وموارد النفط التي عالجها بعد طول صبر ومثابرة.
يبدو العراق الآن في أفضل حالات استقراره خلال العقدين الماضيين، وفي تراجع المخاطر الأمنيّة الداخليّة وتحديدًا من جانب الإرهاب. ومهما كانت نتائج عمليّة الاقتراع في 11 تشرين الثاني/نوفمبر، فإنّ السوداني سيحقّق نتيجة قويّة، لكنّ أحدًا لا يمكنه حصد الغالبيّة البرلمانيّة لوحده، بما يتيح له الاستفراد بتشكيل الحكومة الجديدة. وتقتضي اللعبة السياسيّة بأن يأتي رئيس الوزراء بتوافق الكتل التي تؤمّن له ما يكفي من التأييد داخل مجلس النواب. وإذا اختارت القوى السياسية تنحية المناكفات جانبًا، وغلبت الحكمة مكانها، فإنّ منطق العمل السياسي وتجربة الأعوام الثلاثة تفترض أن يمنح العراقيّون، وقواهم السياسيّة، “السوداني الثاني” تفويضًا جديدًا لمتابعة مسيرة “السوداني الأوّل” التي بدأها بتواضع، وكبر العراق معها.









